(المثقفاتية)... ظاهرة تشرد غير معلنة (الأخيرة)




تـحـتـاج لتـفســــير
(المثقفاتية)... ظاهرة تشرد غير معلنة (الأخيرة)
** التحدي الأكبر خروج هؤلاء من الهم الخاص ( الحزبي ) إلى الهم الثقافي العام
** معالجة إنحرافات الظاهرة يتطلب تدخل قيمي من المجتمع وليس رسمي قانوني
** مصادر المعرفة التي يستهلكون منهاتحمل قدراً كبيراً من التزييف والحقد التأريخي

تحقيق : نبوية سرالختم
لكل مرحلة من حياة البشر ظواهرها التي تحتاج  لتفسير بأدوات نفس المرحلة ولكل مرحلة فكرها ومعرفتها التي تلبي حاجاتها الإجتماعية والسياسية والثقافية الحالية ...
ويقول الفلاسفة لكل سؤال إجابة والعلاقة بين السؤال والإجابة علاقة جدلية لاتنتهي ونحن معنيون في هذا التحقيق بالإجابة على سؤال رئيسي هو  : هل يعايش المثقفون السودانيون أو كما يطلق عليهم ( المثقفاتية ) حالة من التشرد غير معلنة ؟
برز هذا السؤال عندي بعد متابعة متأنية مارستها على مدى شهور لعدد كبير من هؤلاء ( المثقفاتية ) الذين تكتظ بهم بطون المراكز الثقافية وعتباتها فضلاً عن المتحلقين منهم حول  بائعات الشاي اللاتي أضفى وجود هذه الفئة على أماكنهن شهرة خاصة فعندهن تتبدد الساعات في إستهلاك (كلام) بجانب (الشاي) وملحقاته ...
أكثر ماشدني للتحقيق حول الظاهرة إتساع دائرة هؤلاء لتشمل آخرين خصوصاً من فئة الشباب والمعروف ان الأمم تنهض بطاقات شبابها فماذا ينتج هؤلاء داخل باحات المراكز الثقافية وعلى عتباتها الخارجية وعند بائعات الشاي ؟
هذه الأسئلة قادتني إلى أخرى تتعلق بعلاقة هؤلاء بالمكان وعلاقته هو الآخر بالنظرة النقدية للمجتمع فالمكان في حد ذاته يعبر عن حالة هؤلاء الشخوص والتى توضح انهم ليسوا الا ضحية إقصاء إقتصادي وبالتالي المكان بالنسبة له هو فضاء اللا إقتصادية إذ يخلو من الصفقات أو العائد المادي ممايجعلنا مواجهين بخيارين : الأول أن هؤلاء لديهم إنتاج فكري وثقافي مما يجعلنا مطالبين بتحديده من حيث الكم والكيف أما الثاني فهو انهم عبارة عن مستهلكين – عالة على المجتمع – يشكلون خطورة عليه بتحويل كل علاقاتهم إلى كائنات غير منتجه .
ومن ناحية أخرى نحتاج إلى تحليل البعد النفسي لحالة الهروب من الواقع بالعزلة بجانب أسباب ظهورها مع عقد مقارنه بظاهرتي الدروشة والرهبنة
ومن ثم البحث في محاولات لإيجاد علم إجتماع جديد يفسر مثل هذه الظواهر ويعالج إنحرافاتها .
** إدانة ودفاع
حاولنا في الحلقات السابقة أن نجد تعريفاً للظاهرة من حيث المكان الذي توجد فيه لأن الإنسان لايستطيع ان يفهم أو يفسرأو يقيم الظواهر الإجتماعية دون النظر إلى الظاهرة موضوع الدراسة والرجوع إلى الدور الذي تؤديه في النسق الإجتماعي الثقافي الكبير كما ويتعين الحكم على كل عنصر للسلوك في علاقته بالمكان والبناء الفريد للثقافة لان كل بناء ثقافي لابد وان يدرس في السياق العام الذي ظهر فيه.
وأتضح لنا من المقابلات التي أجريناها أن المصطلح المستخدم في الوصف  ( مثقفاتية ) لايجد قبولاً عند الغالبية العظمي لكن توصلت إلى إعتراف بأن قضية تخص أعداد مقدرة من الشباب الواعي لكنه يفتقد لمفتاح التغيير في خضم صراعه مع السلطة مع إشارة إلى أن الإسهام في التغيير الإيجابي هو الحد الفاصل بين السلبية والإيجابية في تعريف المثقف والثقافة التي تشتمل على المعارف والمعتقدات والفن والأخلاق وجميع القدرات التي يسهم بها الفرد في مجتمعه ولها طرق ونماذج علمية وفكرية وروحيه مختلفة .
وأنتقلنا بعدها إلى المكان وما يعبر عنه في حالة هذه الشريحة موضوع التحقيق من نواحي إقتصادية لأن الفرضية التي قام عليها تحقيقنا في هذه النقطة أن المكان يمثل فضاء لا إقتصادي بمعنى خلوه من الصفقات أو العائد المادي وتراوحت الإفادات مابين إدانة للمثقفاتية بركونهم إلى الامور التي لاتحتاج إلى مجهود كبير وطاقة لأنهم  يريدون دائماً بلوغ أهدافهم بأقل تكلفه لركونهم إلى مايسمى براحة اللاعقل وهذه الراحة وظيفتها تفريغ الموضوع من محتواه هذا بجانب وصفهم بعد عقد مقارنة بينهم وبين المثقفاتية الأوائل أنهم عالة وإحدى تشويهات الثقافة العلمانية مضافاً لذلك أن القاسم المشترك بينهم هو الوقوع في فخ البطالة والتسكع .
بيد أن هنالك من دافع عن هذه الفئة بإعتبار أن إنتاجهم عرفته المجتمعات العارفة لكن هم محرومون من إتاحة المساحات المناسبة لإستقبال إنتاجهم  مما يجعلهم يكابدون شظف المكان ومايذيدهم إحباطاً على إحباط الواقع الإقتصادي المتردي الذي يقتل روح المبادأة عند كثيرين منهم فأخذتهم أطراف المدائن وجعلتهم غارقين في لجج قاع المدينة .
في هذه الحلقة وهي الأخيرة نواصل في مناقشة ماورد بالحلقة السابقة بجانب الجزئية الخاصة بتحليل البعد النفسي لحالة الهروب من الواقع بالعزلة لهذه الشريحة مع طرح أسباب ظهورها ومن ثم البحث في محاولات لإيجاد علم إجتماع جديد يفسرها كظاهرة ويعالج إنحرافاتها .
**تعميم الرفض هو السبب
رئيس قسم علم النفس بجامعة أفريقيا العالمية دكتور نصر الدين محمد إدريس : أن هذه الحالة تنشأ من خلال الأحكام المسبقة تجاه الحزب الحاكم وهو بالضرورة مرفوض لديهم وبالتالي يحدث تعميم بحيث يعتبر المجتمع وكأنه النظام الحاكم وبالتالي يتحول الكره للمجتمع لأن ماوجده المثقفاتي من إشكاليات ولدت لديه رفض ومن خلال التعميم إستطاع أن يطور رفضه من الحزب الحاكم إلى المجتمع ككل عليه هناك تحدي كبير يواجه هذه الفئة والتى تعد فاعلة جداً في الجانب الثقافي والفكري وهو كيف تقدم هذا الإنتاج للمجتمع بجانب كيفية الخروج من الهم الخاص ( الحزبي ) إلى الهم الثقافي العام من خلال تناول مشكلات المجتمع مباشرة .
ويذهب نصر الدين إلى ان هنالك شريحة ثانية من المثقفاتية وهم أفراد من الشعب السوداني تذوقوا طعم إستيعابهم في وظائف عامة تعتبر وظائف سياسية وتتباين هذه الشريحة من حيث درجات الإستيعاب ( والي .. محافظ .. مدير إدارة ..) وتتباين الفترات الزمنية للإستيعاب ويؤدي دخولهم في تجارب جديدة مختلفة عن السابق فيدخلون في نفس حلقة الشريحة السابقة كوجوه جديدة تحسب انها من القطاع الثقافي في الوقت الذي تؤدي فيه الثقافة السياسية إلى الإضرار بهؤلاء حيث يدخلون في صراع للتأقلم مع الأوضاع الجديدة مقارنة بالقديم والعكس ويذهب إلى أن المشكلة تكمن هنا في خلق قطاع كبير من الشباب يكونوا عطالى ويمكن ان يؤثر ذلك في عطاءهم الأسري من حيث زيادة الأعباء والمسئوليات الإجتماعية .
أما فيما يخص أمر العزلة عن المجتمع يقول نصر الدين : أن الإبدا ع في الغالب يرتبط بجانب من جوانب الشخصية  ليس بالضرورة كلها لذلك يظهر شباب مبدعون لكنهم تكون لديهم مشكلة هي الإهتمام بالمردود المجتمعي لإنتاجهم وهؤلاء يحتاجون إلى من يظهر إبداعهم فعلى مدى التأريخ نجد أن هنالك كبار من الشاعر عرفتهم المجتمعات من خلال آخرين قاموا بإظهار إبداعاتهم هذا يتطلب أن نبحث في طريقة لإكتشاف المبدعين والإهتمام بهم وكذلك توفير الجو الملائم الذي يحفز إبداعهم هذا بجانب رعاية الدولة للعمل الثقافي والإبداعي ككل بخلق مؤسسات تقدر هذا العمل بحيث يكون هذا العمل هو قضيتها .
من ناحية اخرى يذهب إلى أن هنالك عوامل كثيرة احدثت تغيرات في شخصية الإنسان السوداني منها الحروب هذا بجانب الغزو الثقافي والصراع الثقافي والتبادل الثقافي والإجتماعي والذي تقف وراءه القوى الإعلامية والتى تقوم على التأثير والتأثر الثقافي لكن المشكلة تكمن في أن المجتمع السوداني غير مهيأ لهذا التبادل والتأثير والذي يشترط فيه أن يكون المستقبل بقدر قوة الرسالة المرسلة أو اكبر منها ولأن المجتمع السوداني غير مهيأ لإستقبال مثل هذه الرسائل يحدث تغيير في كثير من جوانب الشخصية فينتج سلوك يستهجنة المجتمع يظهر في الملبس والمأكل غيرها وهذا لايحتاج في تقويمه لتدخل رسمي كما يحدث الآن بل يحتاج كما قال إلى تدخل قيمي من المجتمع عليه فهو يرى أن من أوليات التربية في مجتمعاتنا يجب أن تبدأ ببناء القيم السودانية والذي للأسف أن هذا الجانب كما وجدته الدراسات به تقديم وتأخير كتقديم الشجاعة والكرم على حساب قيمة الحق والعدل زالصدق بالتالي يحدث خلل في معالجة التغيير الإجتماعي وهذا يتطلب إعداد دراسات وبحوث وتهيئة منظمات المجتمع المدني لقراءة المجتمع ونوعية التغيير المطلوب ووضع أولوياته بجانب إشاعة الهم العام في المجتمع ليكون التغيير فعال وهادف .
** مصادر معرفة غير موثوقة
وتتفق الباحثة الإجتماعية سهير أحمد صلاح في مقال منشور بعنوان ( حول إمكانية قيام فكر إجتماعي جديد ) مع ماذهب إليه دكتور نصر الدين في الجزء الأخير من الإفادة السابقة وتذيد عليه بقولها : ان المراجع التي يستهلك منها مثقفوا العالم الثالث المعرفة تحمل قدراً كبيراً من التزييف والحقد التأريخي وتعتبر تضليل أيديولجي لأن الغربيون الإستعماريون أسسوا صفوة حكام وظلت هنالك طبقات إجتماعية مستفيدة هي بقايا المثقفين الذين لايخطون خطوة تتضرر منها مصالحهم فأصبحت هنالك قناعات بأن الأنظمة القائمة لاتلبي الحاجات وأن أى محاولة لحل هذه الإشكالات لابد وأن ترتكز على نقد خطاب الفئة الحاكمة.
وتشير إلى أن هنالك مسلمات تتمثل في أن أى معرفة في شكلها الفعلي بعد أن تكتمل عبارة عن نقد لمعارف سابقة والمعرفة السابقة عاجزة عن الإجابة عن الأسئلة الإجتماعية القائمة بالتالي يوجد حاجة لنقد هذه المعرفة بأدوات معرفية جديدة .
وتضرب مثلاً بالمدرسة الماركسية والتى قالت أنها هي الوحيدة التى إستطاعت ان تمارس نقدها على الوضعية الأروبية وتشير إلى أننا في السودان الحقيقة العلمية عندنا تختلف عن أروبا لسيادة الديانات المختلفة ويوجد عقل معرفته فيها إيمان بالغيب وقد يتجاوزه للإيمان بالسحر والكجور واروبا كلها كما قالت تفكر بالعلم المجرد من الغيب وتذهب إلى أن تحنط العقلية الغربية داخل مراكز ثابته يجعل للسودان ودول العالم الثالث كهوامش مساحة نقدية كبيرة لانها خارج هذه الوضعية بالتالي فإن إمكانية قيام معرفة هنا ( الهوامش ) أكبر منها في المركز فلينين كما قالت حقق ثورة في أضعف حلقات الرأسمالية بعد أن وضع نظريته في أروبا لكنه لم يستطيع ان يحقق الثورة الا في الهامش ( روسيا ) وتشير إلى أن أروبا بلغت مبلغها الحضاري لأنها مارست نقدها كهامش ضد المركز المتمركز في المشرق
عليه فإننا عندما نريد أن نطرح معرفة جديدة ليس بالضرورة ان نلغي كل القائم او نبقي عليه كما هو لكن لابد من أن تصبح المعرفة متاحة للجميع ويكون تفكير الفلاح قريباً جداً من تفكير المثقف وان تتكامل دائرة المعرفة لتشمل الكل وتبدأ بمحو الأمية وإجبارية التعليم مع توفر قدر من الحرية في التفكير والبحث العلمي في ظل وجود آلية إعلام ضخمة تقف خلف هذا المشروع يحقق مقاصده.







تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ضحايا الإتجار بالبشر من لهم إسماعيل وأسرته ... أكثر من 17 عاماً في سجن الكفيل(3-3)

مسلسل إغتيال الأراضي الزراعية بولاية الخرطوم

السودان ... العنف الجنسي يتخلل اكبر عملية نزوح على مستوى العالم