التعدين العشوائي للذهب


الآلاف المنقبين عنه بالبلاد
التعدين العشوائي للذهب .. نعمة أم نقمة (2)
** العشوائية في التعدين مع أضرارها الصحية والبيئية تطمس المعالم الجيلوجية بالبلاد
** الأهالي لايفرقون بين منح ترخيص لمزاولة التعدين وحقوق إستغلال الأرض العرفية بالريف
** ما يجنيه العامل من تعدين الذهب حرفيا يفوق في المعدل بأكثر من ثلاث مرات مزاولة أعمال أخرى
** النشاط ساهم في الفترة (2009-2010) بحوالي 450 مليون  دولار
 في الناتج القومي الإجمالي

الخرطوم : نبوية سرالختم
مارس السودانيون منذ قديم الزمان مايعرف بالتعدين الأهلي ( البحث العشوائي عن المعادن ) وأمتاز معدن الذهب بالأفضلية على غيره من المعادن لقيمته المادية وسهوله تداوله .
ورغم الآثار الصحية والبيئية والأمنية والسياسية والإقتصادية الذي تركها هذا النوع من النشاط منذ قديم الزمان إلا أنه عاد وظهر بشكل كبير وبدعم من السلطات الحكومية في بعض الولايات  مع علمها المسبق بأن استخراج الذهب من الصخور محكوم بقوانين ولوائح تشرف عليها هيئة الأبحاث الجيولوجية بالدولة ولا يسمح للمواطن العادي العمل فيه لاسباب عدة منها طمسه للمعالم الجيولوجية في المنطقة المعينة .
مؤخراً بحثت وزارة المعادن في تحديات الظاهرة وحلولها ومن تلك التحديات : إنتشار مواقع تعدين الذهب العشوائي بالبلاد مما يصعب مراقبتها بجانب قلة وعى المعدنين بالفرق بين منح ترخيص لمزاولة التعدين وحقوق إستغلال الأرض العرفية بالريف، حيث يتمظهر الوضع الحالى كأنها منافسة بين الشركات والمواطنين على نفس المورد فضلاً عن تأرجح نجاح المواسم الزراعية بالريف السوداني وما يتبعه من إعسار مما يدفع أعداد كبيرة من المواطنين للبحث عن مصادر دخل غير تقليدية وذات عائد سريع في الوقت الذي يحجم فيه صغار المعدنين من البحث عن ترخيص قانونى يخولهم مزاولة العمل وإخفاء الناتج/ التهرب الضريبي/ عدم تقدير أهمية الترخيص
(الشاهد ) تفتح ملف التعدين العشوائي بالبلاد وتبحث عن الوجه الإيجابي والسلبي للظاهرة مع التنبية للمخاطر الصحية والبيئية والأمنية المترتبة عليه مستصحبة الدراسات التي قدمتها الوزارة المعنية بجانب رؤية مسئوليها في هذا الإطار .
** الذهب والعشوائية
في هذه الحلقة سنلقي الضوء على ماهية التعدين العشوائي عن الذهب والأسباب المؤدية إلى إنتشاره والدور الذي يفترض أن تمارسه الجهات المسئولة لتنظيم هذا النشاط
فالذهب من المعادن النفيسة التي تمتاز بخصائص فريدة وهو من أقدم المعادن التي أستخدمها الإنسان ، يستخرج من باطن الأرض ولا يوجد على هيئة مركب بل مستقل إما على هيئة قطع صغيرة جدا أو قطع كبيرة مرئية وأحيانا كتل كبيرة ولكن غالبا تواجد الذهب يكون على شكل ميكرسكوبي متداخل مع جزيئات من السليكا
 ويتم التنقيب عنه بعدة طرق بدائية أو متقدمة تتمثل في سلسلة عمليات تشمل الحفر في أعماق الأرض وتكسير الصخور أو غربلة الرمال المحتوية على عنصر الذهب ثم استخلاصه وفصله منها.
وينتشر التعدين بالصورة  البدائية فى شرق البلاد بهضاب ووديان وجبال البحر الأحمر حتى نهر النيل وغربه في شمال كردفان ، بمنطقة جبيت وابير كاتيب و يوار وام نباردى والدويشات وابو صارى فى شرق وشمال السودان بجانب سودرى والأنقسنا وكبويتا بالغرب والجنوب
 وهنالك الآلاف من المغامرين والمنقبين عن الذهب فى نشاط تجارى غير مسبوق، بعيدا عن رقابة الدولة وجهات الاختصاص وبدون معرفة اضراره الصحية والبيئية ويعمل في هذا  النشاط مختلف الفئات العمرية من الأطفال (من الفاقد التربوي) والشباب والشيوخ من  مزارعين و موظفين وخريجي جامعات من مختلف مناطق السودان يأتون الي مواقع التنقيب في مجموعات تضم المجموعة الواحدة ما بين 6 إلى 14 شخص ترحل من المدن في عربتين وهي تحمل احتياجاتها كاملة من خيمة وعدد من براميل المياه والوقود، وأنبوبة غاز وبوتاجاز، ومؤونة من المواد الغذائية ، وبطاريات للإضاءة يصحبها خبير بالمنطقة وذلك حتى لا تتعرض المجموعة لمخاطر التوهان في الصحراء  و نقص المياه والأكل.
ومواقع التنقيب هذه بعضها قريب من نهر النيل وبعضها في الصحراء القاحلة حيث تنصب الخيام  وتعد  للإقامة و يمكثون بها لأسابيع وشهور متواصلة يعمل بنظام الورديات كل وردية مدتها ساعتين بواقع شخصين أحدهما يحمل الجهاز الخاص بكشف الذهب الموجود في باطن الأرض والآخر يقوم بحمل معدات وإستخدامها في الحفر بعد الإستدلال على موقع الذهب ويتم حفر آبار سطحية أو عميقة لاستخراج وجمع الصخور التي بها ذرات أو حبيبات أو خام الذهب وتطحن بطواحين محلية الصنع وتوضع كميات من مطحون الحجر على إناء واسع ثم يصب عليه  الماء مع تحريكه ليزال عنه الطين ويفرغ الماء ببطء وتكرر العملية حتى تتبقى بودرة الذهب مخلوطة ببعض الشوائب المعدنية الاخري مثل الحديد والنحاس والرصاص وما شابه ذلك .
 ثم توضع كميه مناسبة من الزئبق عليه ويحرك  جيدا حيث يلتصق  الزئبق بالذهب الموجود في الاناء تاركا بقية الشوائب . ثم يجمع الزئبق ويوضع على قطعة قماش تربط جيدا  ثم يضغط عليها بقوة باليد , حيث ينفذ الزئبق عبر مسام القماش الدقيقة تاركا خام الذهب على القماش .
 ثم تكرر العملية علي ما تبقي من المطحون وتجمع كمية الذهب المستخلصة وتوضع في إناء حديدي سميك ليتم صهرها.
** الفقر هو السبب
فإذا جئنا لنبحث عن الأسباب التى تقف وراء لجوء الكثيرين أخيراً لممارسة هذا النوع من النشاط، دون الوعي بالأضرار الصحية البيئية المترتبة عليه فحسب تقرير صادر عن هيئة التعدين والمعادن والتنمية المستدامة الدولي الصادر عام  (2007): أنه سيتواصل الاضطلاع بأنشطة تعدين الذهب عشوائياً، طالما أن سببه الفقر على الأقل، ويشير التقرير إلى أن التلوث بالزئبق الناجم عن هذا التعدين يحصل في سياق ركود اقتصادي يعم العالم يعيش في ظله مليار نسمة بدخل يقل عن دولار يوميا، ما يعني أن الربح الذي يجنيه شخص يعيش في فقر مدقع من تعدين الذهب حرفيا يفوق في المعدل ما يجنيه من مزاولة أعمال أخرى بأكثر من ثلاث مرات، كما يعتبر تعدين الذهب حرفيا في الكثير من البلدان تنويعا اقتصاديا .
وحسب التقرير يبلغ عدد السكان الذين يعتمدون على هذه الصناعة من الناحية الاقتصادية 100 مليون نسمة ، مشيراً إلى أنه يوجد من الأسباب ما يدفع إلى الاعتقاد بأن الوضع الحالي مهيأ لتوسيع نطاق تعدين الذهب على هذه الصيغة إلى حد بعيد للغاية، نتيجة عوامل تشمل ارتفاع أسعار الذهب، وتدهور الاقتصاديات، وانعدام الأمن العالمي، وتفشي الظروف البيئية المتطرفة. وكل عامل من هذه العوامل السببية آخذ في الزيادة، بحيث يُتوقع أن تشهد أجزاء من قارة أفريقيا تضاعف عدد العاملين فيها ثلاث مرات خلال السنوات العشر المقبلة .
 وتشير الإحصائيات الحديثة أن هناك حوالي 9 مليون شخص في أفريقيا يعتمد علي التعدين التقليدي كوسيلة لكسب العيش (حوالي 8 % من سكان أفريقيا ) ويستوعب نشاط تعدين الذهب التقليدي في السودان ربما أكثر من مليون شخص يمارسون المهنة علي نحو غير منظم وغير مقنن في معظم الأحيان
يقدر حجم العائد السنوي في الفترة (2009-2010) بحوالي 450 مليون  دولار وهذا يشكل نسبة كبيرة في الناتج القومي الإجمالي إذا إستثنينا عائدات قطاع النفط .
وأكدت وزارة المعادن ممثله في وزيرها عبدالباقي الجيلاني في ورشة التعدين التقليدي الذي أقامتها مؤخراً على هذه المعلومة بان عدد النقبين عن الذهب يقارب 200 ألف وتوقع وصول العدد إلى المليون بحلول عام 2011
وقال : إن التعدين التقليدي يسهم في محاربة الفقر ويزيد من الناتج القومي، بجانب توفير فرص دون شروط، وكشف عن اتجاه لاتفاق مع البنك المركزي واتحاد تجار الذهب لإنشاء بورصة بالبلاد بغرض زيادة القيمة المضافة
من جهته طالب يوسف السماني في ورقة التعدين التقليدي بالسودان بتقوية التنسيق بين وزارة المعادن والسلطات المعنية لتنظيم القطاع وإنفاذ القانون وإشراك الولايات في إدارة المواقع المخصصة لمزاولة النشاط والتشدد في تطبيق المعايير البيئية في الاتفاقيات المبرمة مع المستثمرين وإشراك السلطات في إنفاذ القوانين واللوائح الملزمة، بجانب ضرورة حظر استخدام (الحفارات، والمجسمات والآليات الثقيلة) في عمليات التعدين، مبيناً أهمية أن تتولى وزارة المعادن تأسيس مراكز واستخلاص الذهب بالمواقع المقترحة وأن يتم الشراء عبر نوافذ مخصصة حسب لوائح بنك السودان المركزي، بجانب وضع نظام مراقبة وتقييم مشترك بين وزارة المعادن والولاية المعنية لضمان المحاسبة والشفافية والكفاءة والعدالة بحيث تقوم شركات التعدين العاملة في الولاية باستيعاب نسبة العمالة من الولايات المعنية، بالإضافة إلى سودنة الوظائف حسب الاتفاقية الموقعة بين الشركة والحكومة على أن تلزم الشركات بعد دخولها مرحلة الإنتاج التجاري بالمساهمة في تقديم الخدمات الأساسية في إطار تنمية المجتمع، وتخوف السماني من بيع المعدن للجهات غير الرسمية وتهريبه خارج الدولة ووصفه بالعملة الصعبة التي يجب ألا تفرط فيها البلاد لتمثيله احتياطي العملة الأساسي في ظل الأزمة الاقتصادية، بجانب صعوبة مراقبة النشاط لتحصيل رسوم لصالح الدولة، مؤكداً أن التعدين يخلق تحدياً كبيراً للحكومة لتقدير حجم العمليات والاعتراف بأهمية التعدين العشوائي وغير القانوني، منبهاً إلى مغبة إهمال الاقتصاد التقليدي من زراعة ورعي وتجارة لنشاط وقتي غير مضمون وإزالة الغطاء النباتي مما يؤدي إلى التصحر وجرف التربة، وأقر السماني بوجود معوقات في تنفيذ سياسات قطاع التعدين وتتمثل في انتشار مواقع التعدين بالبلاد مما يصعب مراقبتها، بالإضافة إلى قلة وعي المعدنين بالفرق بين ترخيص لمزاولة التعدين وحقوق استغلال الأرض وإحجام المؤسسات المصرفية عن الدخول كمشترين للذهب فتح الباب للتهريب والوسطاء، شاكياً من اعتماد المحليات بالولايات على آليات تحصيل رسوم من المعدنين نظير السماح لهم بمزاولة تعدين الذهب عشوائياً كمصدر دخل للمحليات .
** قطاع يحتاج لدعم
وقال عبد الرازق عبيد في تعقيبه على أن التعدين سوف يوفر رصيداً ضخماً من العملات الأجنبية للخزانة العامة، وحمل مسؤولية عدم دخول العائد من التعدين إلى خزينة الدولة إلى الفشل والقصور الإداري، وشن هجوماً على الزراعة وضعفها في تنمية صادراتها، وقال إن الأموال التي دعمت بها الزراعة هدر للأموال دون جدوى يجب تحويلها إلى التعدين مباشرة، واتهم الجهات المسؤولة بإهمال قطاع التعدين والتركيز على الزراعة والصناعة وقال إن التعدين منافس خطير لهما، مشدداً على ضرورة توفير الدعم الكامل له للنهوض به، ويرى في توفير مبلغ (450) مليون دولار من التعدين بالدليل على استحقاقه للدعم والتنظيم بدلاً عن الزراعة التي أثبتت فشلها، داعياً إلى دخول الدولة كمشتر دون التدخل بالقوانين المعقدة، مبيناً أن ذلك يضيف لميزان المدفوعات والميزانية.
من ناحيته توقع العقيد مكي عوض في ورقة الآثار الاقتصادية والأمنية الناجمة عن التعدين التقليدي تداخل مناطق التعدين العشوائي والبدائي في الولايات مع مناطق الامتياز الممنوحة للشركات المتعاقدة مع الحكومة القومية مما يؤدي إلى نزاعات وشكاوى ضد الحكومة، مشيراً إلى أن عمليات المسح والاستكشاف والتعدين مكلفة وباهظة الثمن مما يستدعي من الحكومة عدم تحمل الخسائر ، مشدداً على ضرورة التخطيط الإستراتيجي للتعدين واستغلال وتنمية المصادر دون الإخلال بالتوازن البيئي وذلك لأهمية تطوير العمل التعديني وتسهيل المسح الجيولوجي الكامل بكل ولايات السودان لتسهيل ضوابط الاستثمار في مجال التعدين وتفعيل دور الوزارة في الرقابة على الشركات، واقترح السعي في تنظيم وتقنين العمل وإقامة مشاريع الصناعات الحرفية الاقتصادية وأهمية حل الخدمات (ماء، كهرباء) بمناطق التعدين والتنسيق بين الجهات ذات الصلة للرقابة على الأنشطة .
و في تصريح صحافي سابق مدير إدارة المشروعات بالهيئة العامة للأبحاث الجيولوجية مهندس محمد سليمان إبراهيم  يقول  : إن التعدين العشوائي للذهب انتشر بصورة واسعة بالبلاد دون ترخيص من الأبحاث الجيولوجية، وهى كما قال الجهة الوحيدة بالبلاد التى من حقها استخراج التراخيص، مشيراً إلى مخالفات قانونية تجري، مما جعل الأمر يشكل  مثار خلاف مع إحدى الولايات، باعتبار أن قانون تنمية الثروة المعدنية لعام 2007م يمنع أى نوع من التعدين الا برخصة .
** الترخيص مطلوب
ويذهب محمد سليمان إلى أن هنالك أفرادا وشركات تحصلوا على رخصة بحث عامة ولمدة معينة، ومن حق حامل هذه الرخصة كما قال  أخذ عينات من السطح دون الدخول فى اعمال حفريات، مشيراً إلى انه تحدث فى الغالب الكثير من المخالفات لأن هذا النشاط غير مراقب.
ويواصل قائلاً : قانون تنمية الثروة المعدنية لعام 2007م يمنع أى نوع من التعدين إلا برخصة للفرد أو الشركات وتقدر بالكيلومترات المربعة، وتتراوح ما بين كيلو إلى عشرة، وتبلغ كلفة الترخيص للكيلو المربع خمسة آلاف جنيه لفترة ابتدائية تصل إلى خمس سنوات قابلة للتجديد، ويقوم هذا الشخص أو تلك الجهة بدفع رسوم للحكومة بجانب دفع نصيبها من الأرباح بعد الإنتاج.
وفى إجابته عن سؤال يتعلق بالاشتراطات اللازم توفرها لمن يريد الحصول على تصديق، يقول: من اهم الاشتراطات المقدرة المالية والتقيد باللوائح التى تكون فى شكل إتفاقية صغيرة من صفحتين تتعلق بعدم التعدى على مناطق الغير والمحافظة على البيئة وجمع المخلفات فى اماكن محددة. ويشير إلى أنهم منحوا تراخيص على هذا الشكل لمناطق فى نهر النيل، وأغلب هذه التراخيص منحت فى الشمالية. ويذهب إلى أن هذه الجهات تستخدم مثل غيرها مادة الزئبق وأدوات الحفر التقليدية، لأن استخدام السيانيت غير مقدور عليه بالنسبة لهم، فهو بجانب أنه يعتمد على تكنولوجيا عالية ومعقدة تزيد من فرص المحافظة على البيئة، لكن لا يمكن استيراده الا برخصة عالمية .
ويعترف بأن للزئبق تأثير كبير على البيئة وصحة الإنسان، وهو مستخدم فى الشمال والنيل الأزرق منذ التسعينيات، الا أن تلك الآثار لم يشعر بها الناس بعد، رغم أنها موجودة فى التربة، وجزء منها استنشقه المواطن هنالك. وعن دورهم حيال تلك المسؤولية يقول: يفترض أن نراقب تلك الأنشطة مع السلطات الأخرى الولائية والأمنية، ولكن ما يمنعنا أنه لم تصلهم بعد توجيهات من الجهات المسؤولة عنهم  للتحرك فى هذا الأمر. ويشير إلى أن انتشار الرقعة التى يتمدد فيها هذا النشاط، يحول دون فعالية ممارسة عملية الرقابة  
  




تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ضحايا الإتجار بالبشر من لهم إسماعيل وأسرته ... أكثر من 17 عاماً في سجن الكفيل(3-3)

مسلسل إغتيال الأراضي الزراعية بولاية الخرطوم

السودان ... العنف الجنسي يتخلل اكبر عملية نزوح على مستوى العالم