إنتحار الشعراء.. خيبات تفضحها الأشعار

أشواق وأشواك  
إنتحار الشعراء.. خيبات تفضحها الأشعار
مارتا لينش : الموت وحده يتيح لنا ان نعيش مرة اخري
أسامة فوزي : تيسير السبول إقتنع أن الحرية هي جزء من الحقيقة لايمكن إدراكها الا بمواجهة الموت
شيبون : وأدار لي آخرون الأكتاف الباردة التي تبينت أنها لم تكن ساخنة في يوم من الأيام
عبد القدوس الحاتم : شعر إبي ذكرى به نزعه إنتحارية مستفحلة لكن هل تسللت هذه النزعة المدمرة إلى روحه
شابو : للشاعر عالم مختلف يزينه بحساسية وطموح خيالي ووفق هذا العالم يقرأ الواقع وجدانياً
خبير نفسي : الشعر لايأخذ بمتطلبات التفريغ الإنفعالي في مدرسة التحليل النفسي لهذه الأسباب
تحقيق : نبوية سرالختم
إنتحار الشعراء ظاهرة عالمية يكتنفها الكثير من الغموض وتظل من بعدهم سراً طوياً يصعب على الكثيرين فهم مغزاه أو تأويل مسبباته رغم محاولاتهم الجدية في فك طلاسمه بالتحليل تارة وبالتأويل تارة اخرى .
وبما يعرف عن الشعراء من رهافة الحس والرومانسية الزائدة والغرق في الخيالات لابد وأن يلمح المقربون إليهم خيباتهم العديدة في الحياة سواء كانت خيبات شخصية أو قومية – وطنية كما تلمح عليهم جراء ذلك النزوع نحو الوحدة والتوتر والتألم لأسباب شبه مجهولة .
ومع ذلك نجد أن أغلب الشعراء (المنتحرين) على مستوى العالم قبل إقدامهم على الخطوة تفوح من كتاباتهم رائحة الموت فالأديب والشاعر الأردني تيسير السبول قبل إنتحاره كتب : ( انا يا صديقي اسير مع الوهم ...ادري ايمم نحو تخوم النهاية .. نبيا غريب الملامح امضي الي غير غاية ... سأسقط لابد ، يملأ جوفي الظلام ... نبيا قتيلا وما فاه بعد بآية ) قال عنه الكاتب والمحلل أسامة فوزي : ( قد خلصت في بحثي عن تيسير السبول أنه انتحر لاسباب فلسفية فقد تصوف في ايامه الاخيرة وكان دائم السؤال عن الحياة بعد الموت كان يري ان هناك حياة اخري لا يعرفها احد .. اقتنع بان الحرية التي هي جزء من الحقيقة طريق لا يمكن ادراكه الا بمواجهة الموت ) وربما سار على طريقته من قبل ومن بعد الشاعر خليل حاوي حين قال : (فلأمت غير شهيد/ مفصحاً عن غصّة الإفصاح/ في قطع الوريد…) وكذلك الأرجنتينية مارتا لينش من قبل أن تكتب : (ان الموت وحده يتيح لنا ان نعيش مرة اخري ، فلا احدا لا يعرف ما هو الموت ، انه شكل اخر من الحياة وانا متاكدة من ذلك  ) وقال زوجها : (ان مارتا سمحت لنفسها ان تقول للموت : لقد تعادلنا في المباراة فقد نلتني ولكنني انا التي اخترت التوقيت ) وأخيراً الإيطالي الشهير تشيزاره بامنيزه ترك رسالة لصديقته يقول فيها : ( كلما فكرت في الانتحار بدا لي انه أمر هين ، حتى النساء الضعيفات يملكن القدرة عليه ) .
** نلتني ولكن
ولعل الشعراء السودانيين أمثال : عبد الرحيم أحمد أبوذكرى ومحمد عبد الرحمن شيبون وأخيراً محمد الفاتح الجزولي وآخرين لم يسلموا من قدر زملائهم السابقين في السماح لنفوسهم أن يقولوا للموت على طريقة مارتا : ( قد نلتني ولكني انا التي اخترت التوقيت ).
وكانت هنالك العديد من المحاولات لفك طلاسم موتهم فعن شيبون نجد بعض الكتابات ( المنشورة بالشبكة العنكبوتية ) حملت الحزب الشيوعي وزر موته ومن تلك كتابات للدكتورعبد الله على إبراهيم وكمثال لها تحليله عبارة للراحل تقول : ( وأدار لي آخرون الأكتاف الباردة التي تبينت أنها لم تكن ساخنة في يوم من الأيام ) يقول الكاتب : (انها كانت تعبير عن شقائه بجفاء الشيوعيين له بعد أن ترك التفرغ للعمل الحزبي أو ربما الحزب ذاته في ستينات القرن الماضي )
أما عن أبوذكرى فيقول لـ ( الشاهد ) الناقد عبد القدوس الحاتم : ( بإستقرائنا وبحثنا لشعر ابي ذكرى نكشف عن عالم حافل باليأس والإحباط والغموض , عالم من المجرات والكواكب المتهاوية في الفضاء وأحياناً تشم في لغته رائحة القبور والجبانات المهجورة : ذاك في الآفاق .. هذه المشتبهات والأماكن التي مللناها.. والآماسي التي بصقناها تعال نفتح القبر الآن .. تعال نفتح القبر بكل قطرها وكل مرضاها .. , فصار القول أن في شعره نزعه إنتحارية مستفحلة لكن هل تسللت هذه النزعة المدمرة إلى روح الشاعر أيضاً ؟ )
و يورد الكاتب محي الدين محمد تساؤلات أخرى بـ(صحيفة الوطن ) في مقال تحت عنوان ( شاعر الدفوفة ) والمعني به الشاعر محمد الفاتح الجزولي عن : هل مات بظلم الناس الذين إستجار بهم ولم يجيروه أم قتلته قبيلة الجن التي سكنت عقله وقلبه أم أن العصف الذهني في أعماقه كان أقوى منه فعصف به أم ان الرجل مات ولكل أجل كتاب .. كانت هذه التساؤلات منساقه بعد إيراده مقطع للشاعر قال عنه أنه خانه وفضح عذاباته ومعاناته وهو : ( عدت بين يدي تهويماً وحيرة .. عدت وا لهفي .. على قلب تشتت في بيوت الناس يستجدي مجيره .. ظلت الآلام تأبى أن تجيره .. كانت الآلام في صدري خطيرة )
ما سبق من محاولات للبعض في إستجلاء الأسباب التي تقف وراء غياب هؤلاء عن عالمنا بإختيارهم جعلتنا نحاول أن نجد تفسيراً أعمق للأسباب التي تدفع الشاعر لإتخاذ قرار خطير بحسابات الآخرين الا وهو : وضع حداً لحياته بأى وسيلة كانت ؟
** حساسية شديدة
يقول الشاعر عبد الله شابو لـ ( الشاهد ) :  أن الإنتحار ليس وقفاً على الشعراء لكن لأنهم أكثر الناس حساسية يكون إنتحارهم مدعاة للحزن الشديد وعن الأسباب يقول عنها أنها  كثيرة جداً لكنها في الغالب تكون إجتماعية ونفسية وفي أصلها تنشأ من التناقض بين واقع الشاعر وطموحاته فهو لحساسيته يتصور أشياء يصعب بلوغها ويواصل شابو : هذا التناقض بين حياته ومايأمل فيه والواقع يدفعه للكآبة الشديدة ومعروف في علم النفس أن الكآبة تعد من الأشياء التي تدفع إلي الإنتحار وعليه فإن الشاعر كأي إنسان موجود في زمان ومكان ما إذا إنسجم وجدانياً مع هذا الزمان والمكان كانت النتيجة إيجابية أما إذا نشأ صراع بين واقعه وآماله في هذا المكان والزمان كانت النتيجة الحتمية في كثير من الاحيان هي الإنتحار.
ويمضي شابو إلى وصف مسألة إنتحار الشعراء بأنها مسألة معقدة جداً تتداخل فيها المسببات بإعتبار أن للشاعر عالم مختلف يزينه بحساسية وطموح خيالي ووفق هذا العالم يقرأ الواقع وجدانياً ( بحسه لابعقله ) فالشعر تفكير وجداني والفلسفة والعقلانية تفكير وجداني ثاني وبما أن الشعر تركيز وتلخيص للتجربة الإنسانية يكون أكثر إلتصاقاً بالناس فإن رفض هؤلاء الناس أو بعضهم لتوجه الشاعر الكامل للحياة ( رفضهم شعره ) أو لم يجد القنوات التي يفرغ فيها ذاته يمكن أن يموت (كمداً ) وهو صاحب القرار في ذلك .
أما الناقد عبدالقدوس الحاتم لم يشأ أن يعمم الإجابات كما فعل سابقه شابو والذي أمسك عن الخوض في تفاصيل تخص شعراء بعينهم فالحاتم كان أكثر تحديداً بالحديث عن الشاعر عبد الرحيم أبوذكري ونأخذه هنا كنموذج قائلاً : ( المبدع في بلدنا مهمش مضطهد وقد يواجه بالموت البطئ او بالغيبوبة والإنسحاب من الحياة وربما الإنتحارخاصة إذا ادركته حرفة الادب وكان الشاعر خليل مطران يقول : " مارأينا شاعر على جلده قميص " ومن الطرائف ان احد الدوقات زار شاعراً في بيته وكان الأخير مريضاً أو ربما على فراش الموت وطمأنه بانه قرر إقامه تمثال له فاجابه الشاعر بصوت واهن : سيدي لومنحتوني ثمن التمثال لأتعالج به لكان افضل ) وعن ما يخص أبي ذكرى فقال عنه : ( إنه كان مرهفاً وفائق الحساسية ودائم الوسوسة وكان إنطباعه الأول عن الآخرين هو إنطباعه الأخير لايرجع عنه قط ولو كان مخطئاً وقد نشأ في كنف أب صارم وقاسي يعمل في سلك الشرطة ويعاقب اطفاله أشد العقاب لأتفه الأسباب وظل أبوذكرى يحمل جراحات الطفولة التي لم تندمل أبداً حتى غادرنا من النافذة ) ويواصل في الحديث عن تلك اللحظات واسبابها بقوله : ( ماذا حدث بالتحديد في ذلك اليوم المشئوم من أيام الثمانينات الذي شهد وفاة الشاعر أبوذكرى إثر سقوطه من إحدى المباني الشاهقة بموسكو عاصمة الإتحاد السوفيتي آنذاك هل إختل توازنه وهو يطل من النافذة العالية فزلت قدمه من الحافة العالية أم قذف بنفسه في لحظة خاطفة يائسة إلى الفراغ ؟ .. يواصل : النظرية الثانية يرجحها بعض أصدقائه ورفضها البعض فمن الذين يرجحونها الأستاذ يحي محمد احمد في كتابه ( أبوذكرى حمل زهور حياته ورحل ) والذي أنفق سنوات يجمع شتاته ويؤلف بين اجزائه لأن فعل الإنتحار يتمخض عنه مترتبات دينية وأخلاقية باهظة ويصعب هنا الرجم بالغيب ويضيف : وبما أننا في السودان نهتم إهتمام مريض بسيرة الآخرين لتكون فاكهة وجباتنا اليومية المنتظمة فإنني أثبت هنا أن الإهتمام بتراث إبي ذكرى وهو وحده جدير بإستقرائنا والذي ببحثنا عنه نكتشف عالم حافل باليأس والإحباط والغموض عالم من المجرات والكواكب المتهاوية في الفضاء وأحياناً نشم في لغته رائحة القبور والجبانات المهجورة : ذاك في الآفاق .. هذه المشتبهات والأماكن التي مللناها.. والآماسي التي بصقناها تعال نفتح القبر الآن .. تعال نفتح القبر بكل قطرها وكل مرضاها .. ولكن هناك دائماً ضوءاً في آخر النفق : كان شيخاً رائعاً ذاك الصباح .. لحظة ضمت أحاسيس العصور .. وضحكنا ضحك الحزن طويلاً .. وأفاق الضوء في عمق الشعور .. جاءني في الصبح شلال مطير .. ضم في الأرض ملايين المروج ويواصل : لكن على عموم القول أن في شعر أبي ذكرى نزعة إنتحارية مستفحلة ولكن هل سكنت هذه النزعة المدمرة روح الشاعر أيضاً؟
** تصوف سلبي
هنالك ناقد أدبي معروف إتفق مع شابو في ماذهب إليه وذاد لكنه فضل حجب إسمه فقال : ليس من السهل فهم ظاهرة إنتحار الشعراء نسبة لذاتية هذه العملية ونعني بالذاتية هنا عدم وجود أسباب موضوعية للقيام بذلك أى ليس هنالك قاعدة على الإطلاق يمكن تطبيقها للوصول إلى نتائج منطقية ومع ذلك احاول أن أتفلسف على الموضوع بالقول أن الشاعر هو إنساني جداً ومرهف المشاعر وهذا الإرهاف يشكل بنية نفسية مختلفة والشاعر كغيره من الناس يوجد في عالم ملئ بالتناقضات لكنه يختلف عن غيره بطريقة وسرعة الإستجابة وطبعاً أى جرعة زائدة في الإستجابة تخلق معاني مختلفة فأحياناً طبيعة تعامل الشعراء مع النقد الموجه لهم له أثر كبير على حالتهم النفسية واتذكر أحد الأدباء وجهت له إنتقادات حادة في أواخر أيامه مما جعله يفرط في تناول الخمور ويعتبر هذا الإفراط نوعاً من الإنتحار كما هو نوع من الهروب من الواقع يمكن قياسه بالإنتحار وما يمكن ان يقال عن ان النقد اللازع قد يكون سبباً في إنتحار الشعراء يجعلنا نشبه نفسياتهم بالنفسيات الطفولية والتي تتطلب الإعتناء والإحتفاء ويظهر ذلك في أن الكثير من الشعراء والمبدعين توقفوا عن فعلهم بعد توجيه نقد لازعاً لهم ونذكر على سبيل المثال الفيلسوف ميشيل فوكوا ..
هنالك سبب خفي يؤدي بالشعراء إلى الإنتحار وهو ان ملكة الشعر أشبه بحالة التصوف فالمتصوف يجعل من الحياة رحلة لملاقاة الله سبحانه وتعالى وهذه الرحلة عبارة عن شوق ذي طبيعة إيجابية حيث يضع المتصوف إيمانه في وجود حقيقة خلف هذا الشوق لكن هنالك تصوف ذي طابع عدمي حيث يعتبر صاحبه أن هذه الرحلة ليست إلا سراب فهنا تتولد لديه أزمة وجودية حقيقية بعبارة ( إذا كان الشوق خالي المحتوى فلاداعي لمواصلة الرحلة ) فبذلك إنتحار الشعراء ليس الا إيمان سلبي في مقابل إيمان إيجابي عند المتصوف الذي يرفض التوقف في دربه ولكن المتصوف الشاعر ينسحب لكنه ليس أبداً إنسحاب بليد .
**مجموعة إحباطات
ما سبق من قراءات وضعناها امام رئيس قسم علم النفس بجامعة أفريقيا العالمية دكتور نصرالدين محمد إدريس والذي قال : الشعراء هم فئة من الناس تدخل فيما يسمى بالمبدعين ومفهوم الإبداع في علم النفس يعنى به قدرات محددة تبرز في الشخص سواء كانت فنية أو غيره وبالتالي فالشعراء يعبرون عن نوع من الإبداع في شكل شعر وملكة الشعر حسب النظريات التي تناولت قضاياه تقول أنها تجربة إنسانية فريدة ومعاناة في شكل قوالب شعرية وبتفكيكها فهي تتناول جوانب الفرح وكثير منها جوانب الحزن والمعاناة
ومن هذا المدخل نرجع إلى مفهوم الإنتحار في علم النفس والذي يشير إلى أن الشخص المعني ( المنتحر ) قد وصل إلى مرحلة نفسية سئية نتيجة لمجموعة من الإحباطات مما دعاه ليقرر أن يضع حداً لحياته وبالتالي فإذا كانت هنالك ظاهرة لإنتحار الشعراء فيعني ذلك ان الشاعر يعاني من مشكلات تأصلت داخل بناءه النفسي عززها نوعية التنشئة الإجتماعية التى تأثر بها بجانب البيئة المحيطة كل ذلك يجعل بعضهم يعيش معاناة معينة لايستطيعون تحملها مما يؤدي بهم إلى الإنتحار وهذه المعاناة تتلخص في جزأين هما انها سبب في إبداعه وإنتاجه للشعر والآخر انها سبب في إنهاء حياته ويرى إدريس أن إستبعاد ان يكون الفعل الشعري ضرباً من ضروب التفريغ المعتمد في العلاج النفسي والذي هو يعرف بمفهوم التفريغ الإنفعالي كواحد من ادوات العلاج لدى مدرسة التحليل النفسي معللاً ذلك بأن هذا التقنية لها ادواتها وخطواتها ومقاصدها وكذلك لها طريقة تنفيذها وبالتالي فإن النظر إلى الشعر من نفس الزاوية غير صحيح فالشعر من حيث كونه تفريغ هو كذلك لكنه لايأخذ بمتطلبات التفريغ الإنفعالي في مدرسة التحليل النفسي لعدم وجود نظام متبع : بمعنى أنه في حلقات التفريغ الإنفعالي هنالك أخصائي نفسي وطبيب ومريض يبدأ الطبيب بنقاش الموضوعات كما يوجه الأشياء في صالح المريض لكن الشاعر يعبر عن أشياءه كما يراها هو قد تأخذ المسار الصحيح أو الخطأ وبالتالي يمكن لقصيدة يقولها الشاعر ان تؤسس لمشكلة أخرى أكثر سوءاً .

















تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ضحايا الإتجار بالبشر من لهم إسماعيل وأسرته ... أكثر من 17 عاماً في سجن الكفيل(3-3)

مسلسل إغتيال الأراضي الزراعية بولاية الخرطوم

السودان ... العنف الجنسي يتخلل اكبر عملية نزوح على مستوى العالم