(المثقفاتية)... ظاهرة تشرد غير معلنة (2)



تـحـتـاج لتـفســــير
(المثقفاتية)... ظاهرة تشرد غير معلنة (2)
 ** هنالك إنتاج ثقافي فكري قيم في التجمعات الصفوية لكن إشكالاته تكمن في مدى إستيعاب المجتمع له .
** المثقفاتية الأوائل عالة على الدين والجدد عالة وإحدى تشويهات الثقافة العلمانية
** إحباط الواقع الإقتصادي المتردي قتل روح المبادأة عند البعض وأخذ البعض لأطراف المدائن وأغرقهم في لجج قاعها

تحقيق : نبوية سرالختم
لكل مرحلة من حياة البشر ظواهرها التي تحتاج  لتفسير بأدوات نفس المرحلة ولكل مرحلة فكرها ومعرفتها التي تلبي حاجاتها الإجتماعية والسياسية والثقافية الحالية ...
ويقول الفلاسفة لكل سؤال إجابة والعلاقة بين السؤال والإجابة علاقة جدلية لاتنتهي ونحن معنيون في هذا التحقيق بالإجابة على سؤال رئيسي هو  : هل يعايش المثقفون السودانيون أو كما يطلق عليهم ( المثقفاتية ) حالة من التشرد غير معلنة ؟
برز هذا السؤال عندي بعد متابعة متأنية مارستها على مدى شهور لعدد كبير من هؤلاء ( المثقفاتية ) الذين تكتظ بهم بطون المراكز الثقافية وعتباتها فضلاً عن المتحلقين منهم حول  بائعات الشاي اللاتي أضفى وجود هذه الفئة على أماكنهن شهرة خاصة فعندهن تتبدد الساعات في إستهلاك (كلام) بجانب (الشاي) وملحقاته ...
أكثر ماشدني للتحقيق حول الظاهرة إتساع دائرة هؤلاء لتشمل آخرين خصوصاً من فئة الشباب والمعروف ان الأمم تنهض بطاقات شبابها فماذا ينتج هؤلاء داخل باحات المراكز الثقافية وعلى عتباتها الخارجية وعند بائعات الشاي ؟
هذه الأسئلة قادتني إلى أخرى تتعلق بعلاقة هؤلاء بالمكان وعلاقته هو الآخر بالنظرة النقدية للمجتمع فالمكان في حد ذاته يعبر عن حالة هؤلاء الشخوص والتى توضح انهم ليسوا الا ضحية إقصاء إقتصادي وبالتالي المكان بالنسبة له هو فضاء اللا إقتصادية إذ يخلو من الصفقات أو العائد المادي ممايجعلنا مواجهين بخيارين : الأول أن هؤلاء لديهم إنتاج فكري وثقافي مما يجعلنا مطالبين بتحديده من حيث الكم والكيف أما الثاني فهو انهم عبارة عن مستهلكين – عالة على المجتمع – يشكلون خطورة عليه بتحويل كل علاقاتهم إلى كائنات غير منتجه .
ومن ناحية أخرى نحتاج إلى تحليل البعد النفسي لحالة الهروب من الواقع بالعزلة بجانب أسباب ظهورها مع عقد مقارنه بظاهرتي الدروشة والرهبنة
ومن ثم البحث في محاولات لإيجاد علم إجتماع جديد يفسر مثل هذه الظواهر ويعالج إنحرافاتها .
حاولنا في الحلقة السابقة أن نجد تعريفاً للظاهرة من حيث المكان الذي توجد فيه لأن الإنسان لايستطيع ان يفهم أو يفسرأو يقيم الظواهر الإجتماعية دون النظر إلى الظاهرة موضوع الدراسة والرجوع إلى الدور الذي تؤديه في النسق الإجتماعي الثقافي الكبير كما ويتعين الحكم على كل عنصر للسلوك في علاقته بالمكان والبناء الفريد للثقافة لان كل بناء ثقافي لابد وان يدرس في السياق العام الذي ظهر فيه.
وأتضح لنا من المقابلات التي أجريناها أن المصطلح المستخدم في الوصف  ( مثقفاتية ) لايجد قبولاً عند الغالبية العظمي لكن توصلت إلى إعتراف بأن القضية تخص أعداد مقدرة من الشباب الواعي لكنه يفتقد لمفتاح التغيير في خضم صراعه مع السلطة مع إشارة إلى أن الإسهام في التغيير الإيجابي هو الحد الفاصل بين السلبية والإيجابية في تعريف المثقف والثقافة والتي تشتمل على المعارف والمعتقدات والفن والأخلاق وجميع القدرات التي يسهم بها الفرد في مجتمعه ولها طرق ونماذج علمية وفكرية وروحيه مختلفة .
في هذه الحلقة ننتقل إلى المكان وما يعبر عنه في حالة هذه الشريحة موضوع التحقيق من نواحي إقتصادية فالفرضية التي قام عليها تحقيقنا في هذه النقطة أن المكان يمثل فضاء لا إقتصادي بمعنى خلوه من الصفقات أو العائد المادي وهذا إذا وضعنا عدد الساعات التي يقضونها في هذا المكان نصبح أمام خيارين هما أنهم منتجون ومستهلكون أو مستهلكون فقط بمعنى أنهم يشكلون ( عالة على المجتمع ) إذا أخترنا الخيار الأول نصبح مطالبين بتحديد هذا الإنتاج من حيث الكم والنوع ولهذا الخيار مطلوباته الذي يجب أن تتحقق ليكون لهذا الإنتاج إسهامه المقدر في الساحة الثقافية أما الخيار الآخر  إذا كان هو السائد فإن هؤلاء بمنطق المجتمع والعلاقات الإقتصادية السائدة فيه يشكلون خطورة عليه بتحويل كل علاقاتهم إلى كائنات غير منتجه .
هنالك ناقد فضل حجب إسمه تحدث إلينا في الحلقة السابقة وأجاب عن هذه الفرضية من واقع نقده للساحة الثقافية السودانية بقوله : صحيح لم يكن للمثقفاتية أهداف إقتصادية كلاسيكية أى الإرتكان إلى مهنة الثقافة لكسب العيش بمعنى لم يكن هنالك أبداً إقتصاد ثقافة في السودان غير الإقتصاد (الكهنوتي) المتصل مباشرة بدوائر دينية وملحقاتها ( مشائخ , حاوي , فكي ...) وكان هذا الإقتصاد فعلاً إقتصاد الذئاب الذي يشترك ويتقاطع نسبياً في بنيته مع إقتصاد (المثقفاتية) بمعنى إذا كان المثقفاتية الأوائل عالة على الدين فالمثقفاتية الجدد عالة وإحدى تشويهات الثقافة العلمانية وبذلك أكون قد تطرقت إلى ثلاثة أنواع من مزيفي العملة الثقافية , من يوصفون بالصفوة , مثقفاتية الدين والعلمانية وواقع الأمر أن هذه الفئات الثلاثة لديها منتوجاتها والحديث عن هذه المنتوجات ( السلوك الشفهي أو الكتابي ) يقودنا إلى تحليل الطبيعة المعرفية لهذه المنتوجات , في نظرة المعرفة هنالك تداول لمفهوم يطلق عليه المعادل الوصفي وهو يشرح لنا طبيعة المعرفة المستخدمة في النص فهنالك نصوص وصفية لبنية الموضوع وهناك اخرى تناقش وظائف الموضوع وهناك نوع ثالث يتطرق إلى أثر الموضوعات على المتلقي , في المنتوجات الثقافية السودانية لايهم كثيراً عملية التشريح والتحليل المعرفي لان ذلك يحتاج إلى مجهود كبير وطاقة المثقفاتي الذي يريد دائماً بلوغ هدفه بأقل تكلفه لركونه إلى مايسمى براحة اللاعقل وهذه الراحة وظيفتها تفريغ الموضوع من محتواه عليه نجد ان بعض مرتادي المراكز الثقافية ممن يحتفلون بمنتجاتهم الإبداعية هم مجموعة من الشباب قادمون من الريف فيهم من هو خريج جامعات ومن من لم يلتحق بعد لكن القاسم المشترك بينهم هو الوقوع في فخ البطالة والتسكع .
رئيس تحرير مجلة القصة التقي محمد عثمان له راي مخالف لما جاء به الناقد بل جاء مدافعاً عن هذه الفئة بقوله : في تقديري لايمكن وصفهم بالمتبطلين أو العاطلين فهم منتجون , إنتاج من نوع مختلف وهو إنتاج مطلوب عرفت قيمته المجتمعات العارفة لقيمة الفنان والمبدع في مسيرة تقدمها ولذا تجدها ترعاهم وتوفر لهم البيئة المناسبة ليسهموا في حركتها نحو النماء ويواصل : حين نتحدث عن دعم المبدعين من هذا القطاع نعني توفير اماكن مريحة لهم للتثاقف وتبادل الأفكار ومن ثم إتاحة المساحات المناسبة لإستقبال إنتاجهم بدلاً من تركهم هكذا يكابدون شظف المكان ومما يذيدهم إحباطاً على إحباط الواقع الإقتصادي المتردي فيقتل روح المبادأة عند كثيرين منهم فبعضهم أخذته أطراف المدائن وجعلتهم غارقين في لجج قاع المدينة ويضيف : أقول ان التقصير الأساسي في ما يتعلق بإستيعاب شباب مثقفين يقع على الدولة العاجزة عن توفير دور ثقافية تستوعب طاقاتهم ولعل إنشاء وزارة منفصلة للثقافة يفتح باب الأمل في إمكانية توظيف هذه الطاقات المشرئبة للإسهام الثقافي في صالح الوطن .
الكاتب السوري ميشيل كيلو يتفق مع التقي في مقاله المنشور : ( الإنتاج الثقافي من تهافت إلى تهافت ) بقوله أن حياة مجتمعاتنا بها قيودا كثيرة تضعف الإبداع والإنتاج الثقافي أو تحول دونهما، ويجد المبدع نفسه كائنا منعزلا أو مضطهدا، لا جذور له في الواقع المجتمعي والإنساني لبلده، فهو كشجرة الحور، رأسها مرتفع غير أنها بلا جذور وتنمو في تربة هشة مشيراً إلى أن الإنتاج الثقافي يتصل بحالة معنوية وروحية معينة , عليه فإن المنتجات المادية منها ترتبط بشروط مادية ومعنوية ملموسة وهي على علاقة وثيقة بنمط الحياة العامة في المجتمع ويواصل : إذا كان المبدع الفرد يقف وراء الإنتاج الثقافي، فإن المجتمع عموما هو حقله وحاضنته، ويلعب تنظيمه وطابعه ومكان الفرد منه تلعب دوراً مهماً في تعيين نمط الإبداع وحدوده، وفي جعله ممكنا أو صعباً أو حتى مستحيلاً.
ويشير فيما يخص العوامل التي تعيق الإبداع مثلاً في مجال الكتابة الإبداعية إلى أن أى كاتب لايستطيع العيش من تأليفه كما ان قارئه محدود الوجود ، وأن وسائل الإعلام لا تمنحه أي اهتمام جدي، فلا هي تروج له قبل صدوره ولا تناقشه وتعرض محتوياته على الرأي العام بعد ذلك، كما وأن فرص توزيعه ضيقة حتى لتكاد تكون معدومة، بينما تغلق أمامه الأبواب لأسباب متنوعة: مالية، ورقابية، وتجارية، وتنافسية، وثقافية.الخ، عليه يقول : لذلك يندر أن تجد كتابا يطبع أكثر من ألف نسخة في بلده، ويندر أن تتجاوز نسخه القليلة حدود هذا البلد إلى غيره، فإن تجاوزتها بمعجزة ما، ضاعت حقوق مؤلفه وناشره، وواجه عقبات القصد منها إجبار منتجه على رفض بيعه خارج وطنه، حيث تكون له عادة علاقة ما مع الموزعين أو يقوم هو نفسه بتوزيعه، في حين تضيع حقوقه غالبا أو تعد في حكم الضائعة ويذهب إلى أن هذا يجبر الكاتب على تجاهل التأليف، الذي يصير عبئا ثقيلا على صاحبه، ويتحول إلى شيء نادر في الحياة الثقافية ولا أبالغ إذا قلت إن هناك كتابا كثيرين لديهم كتب يخشون أو يرفضون عرضها على الناشرين، إما لأن هؤلاء يطالبونهم بتكلفة طباعتها
ويسند كلامه بواقعه عايشها حين قال : لعلي لا أنسى وجه ذلك الشاعر الذي جاء ذات صباح إلى مكتب المحاسب في إحدى دور النشر ليقبض مكافأة ديوان شعر، وكيف استغنى عن المبلغ الزهيد وصوته يتحشرج حزنا وهو يقول: لو أنني كتبت مقالة سخيفة لجريدة تافهة لنلت ثلاثة أضعاف هذه المكافأة، بينما كان المحاسب يذكره أن عدد كلمات ديوانه لم يتجاوز الأربعة آلاف كلمة، وأن مؤسسته تدفع أربعين قرشا لكل كلمة، وأنه لا حيلة له في الأمر .
ربما تحدث ميشيل عن جانب واحد من جوانب الإبداع وهي الكتابة وهو يعبر عن هم عام يواجهه الكتاب المبدعون في كافة الأقطار العربية بما فيها السودان لكن المطلوب من المبدع ليس الإرتكان إلى هذه التبريرات التى تحول دون توصيل إبداعاته للمجتمع بل عليه أن يجتهد بل ويبدع أيضاً في توصيل هذا ا لإبداع إلى المجتمع وبما ان أغلب من ناقشنا معهم القضية يفترضون وجود عمل إبداعي لهذه الشريحة التي نحن بصدد مناقشتها فالأولى أن نحدد كمه والإ فإن ماسبق من تبريرات لايجدي أمام فرضية أن المثقف عالة على المجتمع ويحول كل علاقاته إلى كائنات غير منتجه .
هذه النقطة حاولنا أن نجد لها تفسيرا لدى رئيس قسم علم النفس بجامعة أفريقيا العالمية دكتور نصر الدين محمد إدريس والذي قال : هنالك تحدي يواجه شريحة من المجتمع خاصة الشباب ترتبط بموقف المعارضة للنظام من حيث منطلقات ومواقف أحزابهم السياسية وأدبيات ( النضال ) والبناء النفسي الذي يتكون من هذه النواحي ويواصل : أحياناً تكون هنالك مشكلة كبيرة تواجه هؤلاء هي أنهم يعيشون حالة إنغلاقية تبعد أحياناً كثيرة من المجتمع ومن الواقع وتنغلق في إطار صفوية محدودة تكون في إطار إجتماعي يرتبط بطبيعة النشاط بشكل عام والذي لايخرج لحدٍ ما من إطارهم المحدود سواء إطار أيديولجي معارض أو مرتبط بالعلاقات الإجتماعية الحزبية وبالتالي فكل الإبداع والإنتاج الثقافي يتركز حولهم وفي إطار محدود جداً ولايكون منفتحاً على المجتمع وبذلك فهم يتجهون نحو الصفوية المثالية ( من وجهة نظرهم ) فتتكون علاقات إجتماعية قوية وإنتاج ثقافي فكري له قيمة كبيرة بينهم لكن إشكالاته تكمن في مدى إستيعاب المجتمع له وهذه كما قال تعد مشكلة حقيقية يواجهها المثقفاتية وهي حالة تنشأ من خلال الأحكام المسبقة تجاه الحزب الحاكم وهو بالضرورة مرفوض لديهم وبالتالي يحدث تعميم بحيث يعتبر المجتمع وكأنه الحكومة وبالتالي يتحول الكره للمجتمع لأن ماوجده من إشكاليات ولد لديه رفض ومن خلال التعميم إستطاع أن يطور رفضه من الحزب الحاكم إلى المجتمع ككل عليه هناك تحدي كبير يواجه هذه الفئة والتى تعد فاعلة جداً في الجانب الثقافي والفكري وهو كيف تقدم هذا الإنتاج للمجتمع .












تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ضحايا الإتجار بالبشر من لهم إسماعيل وأسرته ... أكثر من 17 عاماً في سجن الكفيل(3-3)

مسلسل إغتيال الأراضي الزراعية بولاية الخرطوم

السودان ... العنف الجنسي يتخلل اكبر عملية نزوح على مستوى العالم