(المثقفاتية)... ظاهرة تشرد غير معلنة (1)




تـحـتـاج لتـفســــير
(المثقفاتية)... ظاهرة تشرد غير معلنة (1)

*بعد الإنقاذ سادت فوضى فيما يتعلق بإستيراد المفاهيم وكانت فترة خصبة لتفريغها من محتواها.
* البيئة الإجتماعية والثقافية والسياسية السائدة هي التي تحدد دور المثقف وتصنيفه .
* الظاهرة تعبر عن ضيق الماعون المكاني الثقافي لشريحة مقدرة إختارت حقل الثقافة مورداً

تحقيق : نبوية سرالختم
لكل مرحلة من حياة البشر ظواهرها التي تحتاج  لتفسير بأدوات نفس المرحلة ولكل مرحلة فكرها ومعرفتها التي تلبي حاجاتها الإجتماعية والسياسية والثقافية الحالية ...
ويقول الفلاسفة لكل سؤال إجابة والعلاقة بين السؤال والإجابة علاقة جدلية لاتنتهي ونحن معنيون في هذا التحقيق بالإجابة على سؤال رئيسي هو  : هل يعايش المثقفون السودانيون أو كما يطلق عليهم ( المثقفاتية ) حالة من التشرد غير معلنة ؟
برز هذا السؤال عندي بعد متابعة متأنية مارستها على مدى شهور لعدد كبير من هؤلاء ( المثقفاتية ) الذين تكتظ بهم بطون المراكز الثقافية وعتباتها فضلاً عن المتحلقين منهم حول  بائعات الشاي اللاتي أضفى وجود هذه الفئة على أماكنهن شهرة خاصة فعندهن تتبدد الساعات في إستهلاك (كلام) بجانب (الشاي) وملحقاته ...
أكثر ماشدني للتحقيق حول الظاهرة إتساع دائرة هؤلاء لتشمل آخرين خصوصاً من فئة الشباب والمعروف ان الأمم تنهض بطاقات شبابها فماذا ينتج هؤلاء داخل باحات المراكز الثقافية وعلى عتباتها الخارجية وعند بائعات الشاي ؟
هذه الأسئلة قادتني إلى أخرى تتعلق بعلاقة هؤلاء بالمكان وعلاقته هو الآخر بالنظرة النقدية للمجتمع فالمكان في حد ذاته يعبر عن حالة هؤلاء الشخوص والتى توضح انهم ليسوا الا ضحية إقصاء إقتصادي وبالتالي المكان بالنسبة له هو فضاء اللا إقتصادية إذ يخلو من الصفقات أو العائد المادي ممايجعلنا مواجهين بخيارين : الأول أن هؤلاء لديهم إنتاج فكري وثقافي مما يجعلنا مطالبين بتحديده من حيث الكم والكيف أما الثاني فهو انهم عبارة عن مستهلكين – عالة على المجتمع – يشكلون خطورة عليه بتحويل كل علاقاتهم إلى كائنات غير منتجه .
ومن ناحية أخرى نحتاج إلى تحليل البعد النفسي لحالة الهروب من الواقع بالعزلة بجانب أسباب ظهورها مع عقد مقارنه بظاهرتي الدروشة والرهبنة
ومن ثم البحث في محاولات لإيجاد علم إجتماع جديد يفسر مثل هذه الظواهر ويعالج إنحرافاتها .
** كيف نفسر الظاهرة ؟
 الكاتب عبد الرحمن العيسوي يقول في كتابه ( دراسات في علم النفس الإجتماعي ) أن الإنسان لايستطيع ان يفهم أو يفسرأو يقيم الظواهر الإجتماعية دون النظر إلى الظاهرة موضوع الدراسة والرجوع إلى الدور الذي تؤديه في النسق الإجتماعي الثقافي الكبير فلايمكن الحكم على عادات ثقافية معينة ولايمكن تقييمها الا في ضوء ماهية القيم المرتبطة بها والحاجات التي تقوم بإشباعها وعلاقتها العامة بالإلتزامات الأخرى والتوقعات والقواعد الخلقية ممايعنى أن يتعين الحكم على كل عنصر للسلوك في علاقته بالمكان والبناء الفريد للثقافة فكل بناء ثقافي لابد ان يدرس في السياق العام الذي ظهر فيه.
لكن قبل ان نخوض في القضية موضوع التحقيق لابد وأن نعرف ماهية الثقافة وما ينسب إليها من شخوص سواء بصفة إيجابية نحو نعتهم بـ ( المثقفين ) أو بصفة يُرى أنها تحمل وجهاً سلبياً نحو ( مثقفاتية ) فالثقافة حسب ما أجمع عليها بعض علماء النفس الإجتماعي هي : طرق الحياة المختلفة الصادرة من السلوك الإنساني وإنتاجاته من معايير وقيم ومعتقدات وفن وعلم وآثار ونظم وقوانين وقواعد كذلك هي كل مافيه إستثارة للذهن وتهذيب للذوق وتنمية لملكة النقد والحكم لدى الفرد أو المجتمع وتشتمل على المعارف والمعتقدات والفن والأخلاق وجميع القدرات التي يسهم بها الفرد في مجتمعه ولها طرق ونماذج علمية وفكرية وروحيه ولكل جيل ثقافته التي إستمدها من الماضي وأضاف لها ماأضاف في الحاضر وهي عنوان المجتمعات البشرية هذا ما يخص تعريف الثقافة .
** ظاهرة لاتجد الإعتراف
أعود إلى القضية التي نحن بصددها والتى كلفتني رهقاً كثيراً كون الغالبية ممن حاولت إستطلاع أراؤهم رفضوا من حيث المبدأ إطلاق لفظ  ( مثقفاتية ) على أى كائن ينسب للوسط الثقافي هذا بجانب إفتقاد الكثير منهم إلى المنهجية العلمية في معالجة الظواهر والتي تقتضي أن نزيح البعد الشخصي في المعالجة فمعظم من قابلتهم  نزوعوا إلى إعتبار تلك الأسئلة موجهه لشخوصهم أى بمعنى آخر أنهم المقصودين من تلك الأسئلة على ذلك جاءت كل إجاباتهم تبريريه  ومنهم من إشترط حجب إسمه كون تصريحه يحمل نقداً حقيقياً لتلك الظاهرة .
 الناقد الأدبي الصادق الماحي كان اول من أبدى إستعداداً للحديث عن الظاهرة رغم انه كان متحفظاً بعض الشئ خصوصاً فيما يتعلق بلفظ ( مثقفاتي ) لكنه في النهاية تحدث بحديث مرتب حول من هو المثقف دوره فقال  : أن البيئة الإجتماعية والثقافية والسياسية السائدة هي التي تحدد دور المثقف وتصنيفه وعليه فهنالك تصنيفات كثيرة للمثقفين حسب النظريات الإجتماعية منها المثقف السلفي والليبرالي والثوري والعضوي  ويواصل : مثلاً كلما سادت في أى بيئة إجتماعية درجة من الوعي المتطور نجد أن هنالك مثقف ثوري أو عضوي والمثقف الثوري هو الذي يرتبط بقضايا واقع مجتمعه الإجتماعي والسياسي من خلال موقف تنظيمي معين أما العضوي فهو حسب تعريفه يعني ضمير مجتمعي أو تأريخي بمعنى أنه حامل لقضايا مجتمعه ببعد تأريخي وإجتماعي وثوري وفيما يتعلق بعلاقة المثقف ببيئته الإجتماعية يرى الماحي انه ينتج بإستمرار لأنماط من الوعي من خلال بنية وعي إبداعي أو بنية وعي خلاق وعن طريق نموذج الوعي الذي ينتجه يمكن ان ينتظم الممارسة الإجتماعية ويكون مرتكز أساسي لأنماط  كثيرة من السلوك الإجتماعي المتمثلة لهذا الوعي .
لكن مايميز وعي المثقف الحقيقي في تلك التصنيفات التي أتى بها الماحي هو ماقاله الأستاذ حسن البطري في سياق مقال عبر فيه عن إفتتانه بإنسان مدينة عطبرة في إحدى صفحات صحيفة الصحافة ( صفحة بملايين الكلمات ) تلك الكلمات ساعدتني كثيراً في ما أبحث عنه وهو التمييز بين المثقف الحقيقي من غيره قال البطري : ( مايميز وعي إنسان أتبرا عن وعي الآخرين إنشغاله بالإسهام الإيجابي في عملية التغيير الإجتماعي )  .. وأيضاً : ( كثيرة هي المدن " الواعية "  يشغلها المثقفون والأفندية والأنتلجنسيا .. لكن وعي مثقفيها لايتجاوز أرنبة الأنف ولا المساحة التي تشغلها أقدامهم ) ..
** من المثقفاتي ؟
حتى هذه النقطة تحدث الماحي عن ما يمكن ان يشغله أو يكون عليه المثقف لكن إذا عدنا إلى التوجه السلبي في تسميه المثقف وهو إطلاق مسمي ( مثقفاتي ) نجد أن هذا المسمى وجد تفسيره وتبريره لدى من ناقشنا معهم القضية منهم الناقد الصادق نفسه والذي يرى أنه كلما سادت أنماط مختلفة من تدني الوعي في البيئات الإجتماعية المختلفة يعاني المثقف بدوره من حالة إغتراب فيتمرد على هذه البنية وبعد ذلك يصبح خطابه إستعلائي بمعنى هنالك مسافة بين المثقف والبنية الإجتماعية في سياق خطابه المطروح سواء كان إستعلائي أو متمرد داخل هذا الخطاب يتم إنتاج أنماط السلوك والممارسات وتبدو بالنسبة للبنية الإجتماعية على درجة عالية من الغرابة والشذوذ وهذه الأنماط من السلوك تعمل على ذيادة الفجوة بينه وبين البنية الإجتماعية التي يعيش فيها وفي سياق موقفه الذي يتبناه والمتمثل في القطعية بينه وبين سياقه الإجتماعي يعيد إنتاج فضاءاته الخاصة بالضرورة يشاركه شخص من نفس درجة وعيه من خلال فكرة إنتاج الفضاءات يسعى إلى تواصل حقيقي يعتقد أنه مع آخر يشاركه في نفس مستوى الوعي والهموم الإجتماعية والثقافية .وهذا يترتب عليه ان يتم تصنيفه داخل البنية الإجتماعية متدنية الوعي ( فتطلق عليه مسميات , يتم إنتاج نماذج من الرفض للخطاب الذي يتبناه إلى آخره ) .
رئيس تحرير صحيفة القصة السودانية التقي محمد عثمان تحدث إلينا من زاوية مختلفة لاترفض التسمية من حيث السياق وإنما تناقش من خلالها مبررات وجودها يقول التقي : المثقفون أو ماعرفوا إصطلاحاً بالمثقفاتية وهم الذين يترددون على اماكن معروفة بوسط الخرطوم إرتبطوا بها وارتبطت بهم منها مقهى أتنيه والمراكز الثقافية الأجنبية والآفرويشن والأرصفة المتأنقة بالكتاب المفروش .. يواصل : هؤلاء يعبرون عن ضيق الماعون المكاني الثقافي بشريحة مقدرة من الشباب إختارت حقول الثقافة مورداً بعد ان إختارتها ضروب الإبداع مصدراً فمنهم التشكيلي وكاتب القصة والروائي والشاعر الذي لم يجد مؤسسة تظله بظلها فأختار - مجبراً - الهجير والأرصفة ...
** الإنقاذ وفوضى المفاهيم
كأن الأستاذ التقي يريد أن يقول ماقاله الكاتب رحيم الحلي في وصف الشاعر العراقي جبار الغزي بعد اكثر من 20 عاماً من إنتقاله للدار الآخرة حين قال عنه في مقال منشور وافق ميقات ذكراه : (وجهه المتعب الملتحف بهمومه مثل خارطة الوطن المثخن بالاوجاع ، وجسده المنهك من وقع خطاه التائهة ، حائرُ بين شواطي الانهار او الحدائق العامة اوالغرف المتداعية غادر عالمنا المتخم بالاحزان ووطننا المشبع بمظاهر الظلم بعد رحلة انهكت جسده المتداعي ، كان قدره ان يعيش في وطن يكون شعراءه اما متخمون على اعتاب السلاطين ، او فقراء معدمون تجرف بعضهم قسوة الحياة الى حافات الانهار وارصفة الطرقات وافتراش الحدائق العامة او غرباء مشردين في هوامش المنافي يقضون لياليهم في الاضرحة المنسية او الخرائب المهجورة ... )
لكن هنالك ناقد آخر قريب جداً من الاوساط الثقافية بوسط الخرطوم تحدث إلينا لكنه فضل حجب إسمه وتأتي إفادته في هذا المنحي مؤكدة على وجود الظاهرة كما وتعطي بعداً تأريخاً لوجودها في العالم وبالسودان تحديداً يقول : كلمة مثقفاتية هي تعريب للكلمة الفرنسية أو الإنجليزية ( إنتلجنسيا ) التي كانت تطلق على مثقفي السلطة في الدول الإشتراكية سابقاً لكن ظهرت بصورة كبيرة في السودان مطلع تسعينيات القرن الماضي والتي إمتلكت الحركة الإسلامية فيها مقاليد السلطة بعد إنقلاب عسكري حيث سادت فوضى فيما يتعلق بإستيراد المفاهيم وكانت فترة خصبة لتفريغ المفاهيم من محتواها كما كان ينظر لأى مفهوم نظرة ( غائية ووظيفية ) حيث ساد قانون الغاب وكان للذئاب نصيب أوفر لكن هذا التحليل لاينطبق فقط على الحركة الإسلامية لسيادة فكرها في ذلك الوقت لكن ينطبق على الصفوة السودانية برمتها التي جعلت من الثقافة مادة السحر والإثارة وبحث عن نبوءات زائفة وعلى ذلك نظر للمثقفاتية نفس النظرة .
ويذهب فيما يتعلق بالسلوك الفيزيائي للمثقفاتية إلى أن الإهتمام بزي بوهيمي أو يعكس حالة من حالاتها ( المجاذيب ) للتعبير عن الأصالة أو الإعتقاد بأن المضمون أهم من الشكل لكنها في الواقع  لاتخلو من تلاعب فإدعاء الأصالة نفسه هو شكل من أشكال الإحساس بالفراغ وقد يكون في الغالب سلوك رد فعلي لا أكثر
ويرى أن هنالك عدة عوامل ساهمت في خلق هذه الشرائح منها الإقصاء الإقتصادي بإعتبار أن هذه الظاهرة هي إحدى إفرازات البطالة ومنها الإقصاء الإجتماعي لأن البحث عن ثقافة في ذاتها هي إحدى الوسائل التي يتخذها القادمون الجدد إلى المدينة للإندماج أو الإيحاء بالقِدم في هذه الدوامة بإعتبار الثقافة إحدى الأصول التي يمتكلها الغرباء وبذلك تكون الخرطوم قد عاشت إحدى حالات الغزو الثقافي من الريف ( على العكس تماما مما ينبغي ان يكون فالمدينة يجب ان تثقف الريف وليس العكس ) ويقول : هنا نلاحظ ان سكان الريف القادمين إلى المدينة لايكترثوا كثيراً بثقافة المدينة والتي يعتبرونها مزيفة فكل من ياتي إلى الخرطوم يحمل معه قريته ويطالب غيره بالإمتثال لثقافته وهكذا تصبح المدينة مسرحاً للذئاب البشرية البرية وللبدو ومنطق البداوة وبهذا تكون ظاهرة ترييف المدينة هي ظاهرة تثقيف المدينة
في جانب آخر يقول : ظاهرة المثقفاتية هي ظاهرة إستهزاء بالثقافة ككل ويبدو هذا في ان الإسلاميين والعساكر كلاهما ذوي حساسية مفرطة تجاه الثقافة وهكذا تصبح الثقافة بالنسبة لهم كعب أخيل ( نقطة ضعف ) عليه دائماً الصراع الذي يحدث بين هؤلاء وغيرهم يقع في الساحة الثقافية فنلاحظ دائماً الثقافة عند الجيش والإسلاميين لاصلة لها بالمجتمع وإذا وجدت تكون من اجل ديمومة الأنظمة بمعنى آخر هي أنظمة ثقافية إنتهازية لهذا نجد ان ظاهرة المثقفاتية ليست إلا إستهجان بالثقافة فرجال الدين حتى لوكانوا علماء فليسوا مثقفين بمعنى انهم لايدعون إلى حرية التفكير فهذه بالنسبة لهم إلحاد أما الجيش فيرى في الثقافة مسرح فوضى أى أناس يعيشون خارج الأقفاص وهكذا واللوحة في مجملها لاتعكس صورة جميلة عن الوضع الثقافي بالسودان .




تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ضحايا الإتجار بالبشر من لهم إسماعيل وأسرته ... أكثر من 17 عاماً في سجن الكفيل(3-3)

مسلسل إغتيال الأراضي الزراعية بولاية الخرطوم

السودان ... العنف الجنسي يتخلل اكبر عملية نزوح على مستوى العالم